ما معنى التدبر ؟
التدبر: هو مأخوذ في اللغة من مادة الدال والباء والراء -دبر- أي : عاقبة الأمر ومنه الدُبر (ولا تتدابروا) أي لا يعطي أحدكم أخاه دُبره , الدُبر عاقبة الأمور في اللغة .
وفي الاصطلاح معناه : التأمل والتفكر في الآيات ومعرفة مآلاتها وأسبابها ودلالتها وغاياتها . فهو معنى زائد عن القراءة ، ومعنى زائد عن معرفة المعنى، يعني حين أقول لكم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) ما معنى لا يألونكم ؟ يعني لا يقصرون , وما معنى خبالا ؟ يعني فسادا ، ومنه فساد العقل , الخبال: فساد العقل واضطراب أمره , هذا تفسير . لكن لما أريد أن أصل إلى معنى زائد سأتدبر في الآية ، أتفكر في عاقبتها ومآلها وأسباب نزولها وأربطها بواقع الحياة , فالتدبر معنى زائد عن معرفة المعنى إلى معرفة الغاية والمقصد وعاقبة الأمر. ولذلك التدبر معنى عزيز ورد أربع مرات في القرآن :
اثنان منها في ضمن ذِكر المنافقين في سورة النساء وفي سورة محمد , فكأن علاج النفاق في تدبر القرآن (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) في سورة النساء , (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) في سورة محمد .
وجاءت في ذكر الكافرين (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ)
وجاءت للمؤمنين (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)
التدبر لا يعلمه كل أحد ، إذا ما فضائل التدبر ؟
-أولا : علاج لنفاق القلب , من تدبر القرآن حماه الله من نفاق القلب , لن يُنافق من تدبر القران ولذا لما ذكر الله المنافقين ذكر ضرورة التدبر , قال (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) .
-الثاني : للقرآن بركة , للقرآن بركة في الأعمار ، وللقرآن بركة في العلاقات ، وللقرآن بركة في الاجتماعات ، وللقرآن بركة في الأموال ، وللقرآن بركة في كل شيء , لكن ينالها المتدبر (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا) فربط بين البركة وبين التدبر , ومن بركة القرآن أنه الصاحب الذي لا يخذل صاحبه أبدا , القرآن الصاحب الذي تجده في دنياك (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ*وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ) القرآن شرف لي ولك , الذِكر معناه الشرف والرفعة , لكن لكل أحد (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) مالذي قدمته للقرآن ؟ كيف عملت بالقرآن وكيف استجبت له ؟ فالقران شرف لمن قدم له وعمِل به , قال (مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا) بركته أنه رِفعة لصاحبه في الدنيا , (إن الله يرفع بهذا القران أقواما ويضع به آخرين)
وبركته في القبر، جاء في حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (أن العبد اذا وُضع في قبره تراء له في قبره رجل طيب الوجه طيب الريح قال أنا كتاب الله الذي أسهرك في الهواجر -في الليل-)
ومن بركته أنه في المحشر , (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ*وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ*وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ*لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) يأتي القرآن حتى أن العبد يسأل من أنت ؟ قال أنا كتاب الله , ومن بركته أنه يبقى مع العبد إذا دخل الجنة (يُقال لقارئ القران اقرأ ورتل) , وجاء في رواية (وتلذذ بقرائتك في الآخرة كما كنت تتلذذ بها في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها) . (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ) البركة مع تدبر القرآن .
-الثالث : من تدبر القرآن أحبه الله -أسال الله أن يحبنا وإياكم- أعظم نعمة وأكبر شرف أن يحبك الله وأن يقربك منه ومن كان في حِمى الله انتصر ، ومن كان الله معه لم يحزن (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) علاما يحزن من كان الله معه ؟! علاما يستوحش من كان الله معه؟! من كان الله بقربه يسمع له ويستجيب له , ولذا من بركات التدبر أن الله يحب صاحبه , ودليل ذلك ما أخرجه الإمام أحمد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أن رجلا كان يقرأ في الصلاة مع ما تيسر من القرآن ( قل هو الله أحد ) فشكاه أصحابه إما ان تقرأ ما تيسر أو تقرأ ( قل هو الله أحد ) قال إنها صفة الرحمن وأنا أحبها , قال : فإن الله أحبك بحبك إياها), أحبه الله لأنه تأمل في سورة الإخلاص فكيف بمن يتأمل في سورة الإخلاص وغيرها من السور .
من أخذ القرآن كان حيا وجعل الله له نورا , أعظم نور نور القرآن ولذلك في هذه الآية جمع الله بين فضلين عظيمين لمن أخذ القرآن (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) من كان ميتا, إذا الحياة والموت ليست حياة الاجساد ولا موت الاجساد إنما حياة الارواح وموتها , وبقدر ما تأخذ من القرآن وتستجيب لله تحيا (اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) الحياة الحقيقة في الاستجابة لله وللرسول , وإلا إذا ما كان عندك استجابة حياتك مثل حياة البهائم ، أكل وشرب وجسد يذهب ويأتي -الحياة مشتركة- ميّزك الله بهذه الأرواح , بهذا العقل الذي يشرفك لتقوم بالمهمة التي خُلقت من أجلها .
تأملت في الكون رأيت أن الشمس تؤدي دورها في الحياة , تلاحظون أن اليوم طويل النهار مع ذلك هل تغيب الشمس قبل وقت المغيب الذي قدره الله لها؟ وقل تطلع قبل وقت الشروق الذي قدره الله لها؟ الشمس تقوم بوظيفتها ، والقمر يؤدي وظيفته ، والنجوم والكواكب كلٌ يؤدي وظيفته لكن أسأل الله أن يعيننا وإياكم على أداء وظائفنا (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) حمل أمانة التكليف (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) يضيع الأمانة بسبب ظلمه يعرف الحق لكنه يظلم نفسه ، أو بسبب جهله والذي سيأتينا في مواصفات الشخصية المسلمة .
إذا من فضائل تدبر القرآن الكريم : أن صاحب التدبر يحبه الله ، ومن فضائل التدبر أن من تدبر القرآن أحيا الله روحه وجعل روحه في نور , بل لا يزال هذا النور يمشي به في الناس حتى يستضيء الناس بنوره , ولذلك جاء في الحديث : (أمتي كالغيث لا يُعرف أولها خير أم آخرها) مثل المطر النازل من السماء , وأفضل العباد من كان الغيم الذي يحيي الله به قلوب الناس, وقد جاء في حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (أولياء الله الذين إذا رُؤوا ذُكر الله) أولياء الله الذي إذا دخل المجلس جعل الله له نورا يمشي به في الناس قلب حديثهم من قيل وقال وكلام أهل الدنيا , ولا ينبغي لمؤمن أن يكون صاحب لغو (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) , ذكر الإعراض عن اللغو بين ركنين من أركان الإسلام: الصلاة والزكاة فكأن ترك اللغو صفة ظاهرة من صفات المؤمنين , وكأن الخشوع في الصلاة لا يتأتى لمن كثُر لغوه ، إذا كثر لغوه أثر على حضور قلبه في الصلاة ولذلك نص على ترك اللغو (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) في رمضان صفدت شياطين الجن وبقيت شياطين الإنس , يقعدون بكل صراط يدعوا إلى الله يعرضون ويصدون عن سبيل الله من آمن ويبغونها عوجا , يريدون أن تعوّج الطريقة ، والمخطئ من سلّم قطاع الطريق نفسه وجعلهم يتلاعبون به وجلس مجالس اللغو والله يقول (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) لا يليق بك أن تبقى مع جاهل ظالم لنفسه . إذا من فضائل التدبر أن الله يُحيي الإنسان به روحه ويجعل له نورا يمشي به في الناس فتحيا القلوب به لأنه يُذكّرهم بالله. هذا من فضائله .